الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولهذا قال جمهور العلماء من الأصحاب الكرام والتابعين والأعلام والأئمة الأربعة بكونها مغسولة بفعل النّبي صلّى اللّه عليه وسلم والتحديد الوارد في الآية، لأنه جاء في المغسول لا الممسوح، ولهذا لم يجعل اللّه تعالى حدا لمسح الرّأس كما جعله في الأيدي والأرجل، فلو كانت الأرجل ممسوحة لما قال إلى الكعبين، وهذا كان في الغسل لا يقابله قول ما، وأما من قال ان الجر في {وَأَرْجُلَكُمْ} من عطف المجاورة مثله في «هذا حجر ضب ضرب» بجر ضرب على أنه نعت لحجر لا لضب فليس بجيد، لأن الجر على المجاورة انما يكون لضرورة أو عند حصول الأمن من الالتباس كما في المثل على حد قولهم خرق الثوب المسمار برفع الثوب ونصب المسمار لمعلومية عدم الالتباس، وفي الآية ليس كذلك، ولم تنطق به العرب مع حرف العطف، فظهر أن الغسل ثابت بنص القرآن المفسر بفعل الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران مولى عثمان بن عفان رضي اللّه عنهما أن عثمان دعا بإناء فأفرع على كعبه ثلاث مرات فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فتمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين، ثم قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلّى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ورويا عن عبد اللّه بن زيد بن عاصم الأنصاري نحوه ببعض زيادات.وأخرج أبو داود عن عبد خير عن علي كرم اللّه وجهه بزيادة: واستنشق ثلاثا فتمضمض ونثر من كف واحد وزيادة، فمن سره أن يعلم وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فهو هذا وأخرج أبو زيد عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص مثله بزيادة فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم على اللّف والنّشر المرتب.وفي رواية فقد تعدى وظلم.وإنما عد مسيئا أو متعديا لزيارته على الحد الأعظم من فعل الرّسول، وظالما لأنه نقص عن حد الكمال، فحرم نفسه من الأجر المرتب عليه.وروى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال تخلف عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصّلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته ويل للأعقاب من النّار مرتين أو ثلاثا.ورويا عن أبي هريرة نحوه.وأخرج مسلم عن جابر قال أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك، قال فرجع فتوضأ ثم صلّى وأخرج أبو داود عن خالد عن بعض أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه رأى رجلا يصلي وفي قدميه لمعة قدر الدّرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصّلاة، فهذا كله مأثور عنه صلّى اللّه عليه وسلم وكله يؤيد أن الرّجلين مغسولة لا ممسوحة، وأن غسلها فرض وقد ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشى فأدركت رسول اللّه قائما يحدث النّاس فأدركت من قوله ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلّا وجبت له الجنّة.فقلت ما أجود هذا، قال قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت، فإذا عمر قال رأيتك جئت آنفا، قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيهما شاء.وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كلّ خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كلّ خطيئة كان بطشتهما يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كلّ خطيئة مشتهما رجلاه مع الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب.ويراد بهذه الذنوب واللّه أعلم التي لم يتعلق بها حق الغير، على أن اللّه تعالى قادر على عفو الجميع وإرضاء النّاس من فضله وكرمه وجوده الواسع.ورويا عن نعيم بن عبد اللّه المجمر عن أبي هريرة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن من أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.وفي رواية أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء.وفي رواية لمسلم قال سمعت خليلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.ورويا عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ الصّلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلّل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه الماء ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده.هذا وأما ما يتعلق بالتيمم فقد تقدم بيانه في الآية 43 من سورة النّساء فراجعها.ومما يدلّ على أن المراد بالملامسة في هذه الآية الجماع لا اللّمس باليد مما ثبت أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقبل نساءه ويصلي، فلو كان المراد منها مطلق اللّمس لما فعل ولتوضأ عند وقوع مثل ذلك منه، ولهذا قال به أبو حنيفة ولكن الشّافعي رحمه اللّه قال المراد اللّمس باليد وكأنه لم يثبت لديه ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل حضرة الرّسول وكان أقدم منه، لأنه ولد يوم وفاته يوم الثلاثاء سنة 150 من الهجرة، ولهذا ترى العلماء يعطلون قراءة الدّرس فيه احتراما لوفاة الأوّل وولادة الثاني.
.مطلب تذكير رسول اللّه ببعض النّعم التي أنعم اللّه بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر وقصة موسى عليه السّلام مع الجبارين: قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون بالإيمان والعافية والرّزق وثواب اللّه على أعمالكم الحسنة {وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ} حين أخذ العهد عليكم في الأزل، وهو اعترافكم بالربوبية حين خاطبكم بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} كما مر في الآية 172 من سورة الأعراف ج 1 أي تذكروا هذا أيضا فذكره يحدو بكم على القيام بعبادته، ولذلك نبه جل شأنه عليه بقوله: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا} يحثهم على الوفاء به لأنهم التزموا بذلك العهد، قال بعض المفسرين أن المراد بالميثاق هنا المبايعة لحضرة الرّسول على السمع والطّاعة، وإنما اضافة لحضرته مع صدوره من نبيه لكون المرجع إليه ولقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} الآية 11 من سورة الفتح المارة والأوّل أولى لما في الثاني من عدم الانطباق على ظاهر الآية إلّا بتأويل {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها النّاس بالمحافظة على هذا الميثاق لأنكم مطالبون به ومحاسبون عليه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (7) لا يخفى عليه شيء يعلم المحافظ على عهده بقلبه ولسانه والنّاكث فيهما والمعترف بلسانه دون قلبه وبالعكس.قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} في كلّ ما يلزم القيام به من العمل بطاعته والاجتناب عن نهيه قولا وفعلا حالة كونكم {شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} العدل من غير محاباة لأحد بود أو قرابة ومن غير حيف من بغض أو عداوة {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} يحملنكم ويدعونكم {شَنَآنُ} بغض أو عداوة {قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا} في أحكامكم وشهاداتكم، وقد عدّي فعل يجرمنّكم بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى فعل يتعدى فكأنه قال لا يحملنكم بغض المشركين ومنهم الخطيم شريح بن شرحبيل المار ذكره في الآية الثانية النّاهية على عدم ترك العدل والتعدي عليه بارتكاب ما لا يحل بل {اعْدِلُوا} بشأنه وشأن كلّ أحد سواء كان قريبا أو بعيدا، صديقا أو عدوا، وضيعا أو رفيعا، شريفا أو سخيفا، غنيا أو فقيرا لأن إجراء العدل مع الجميع {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} الموجبة لقرب اللّه تعالى الموصلة لجنته {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في أقوالكم وأفعالكم وحركاتكم وسكناتكم سركم وجهركم {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (8) من العدل والحيف في الأحكام والشّهادة والجد والهزل بأقوالكم وأفعالكم وإشاراتكم ورمزكم ونياتكم، وهو الأمر للوجوب لأنه لم يقيد ولم يعلق على شيء وما كان كذلك فهو واجب امتثاله لا مندوب، والعدل أساس الملك وهو مبعث الرّاحة للعامة والخاصة، وملاك كل شيء وقوام الأمور بين النّاس، وهو الأصل الذي يرجع إليه في الدّنيا والآخرة قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} بما عاهدهم عليه وواثقهم به وماتوا على ذلك فيكون {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} عامة لذنوبهم وستر شامل لعيوبهم في الدّنيا {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (9) في الآخرة لا أعظم منه، وناهيك به أنه من الرّب العظيم ولا يعطي العظيم إلّا العظيم.قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} ونكثوا عهودنا ونقضوا مواثيقنا وخانوا أمانتنا {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} (10) لجورهم في الأحكام وكتمهم للشهادة وميلهم عن الحق في أقوالهم وأعمالهم خبيثو النّيات الّذين يموتون مصرين على قبائحهم يحرفون فيها لأنهم أهلها كما أوعدهم اللّه على لسان أنبيائهم وفي هذه الجملة اشارة إلى خلودهم في النّار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة، وفيها دلالة على أن غيرهم لا يخلدون في النّار قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} كررت هذه الجملة للتأكيد بلزوم تذكر النّعمة وشكر المنعم والشّكر بمقابل النّعمة واجب ولغيرها مندوب، وهذه النّعمة غير تلك المذكورة في الآية السّابقة لأنها لمطلق التذكر وهذه بمقابل ما أزاله عنهم ورفعه المبين بقوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} هم بنو ثعلبة وبنو محارب {أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بأن يهلكوكم حينما أحرمتم بالصلاة إذ أجمعوا على الغدر بكم إذ ذاك {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} وحماكم من كيدهم وحال دون غيرهم بكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} الذي وقاكم من مثل هذه الأمور دون حول منكم ولا قوة ولا علم ولا مشاهدة لتراقبوه في جميع شؤونكم وتوكلوا عليه حالة الشّدة والرّخاء {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (11) به المصدقون بوعده، وهذه حادثة قديمة يذكر اللّه بها رسوله وأصحابه المؤمنين عند ما أراد بنو كاسب وبنو ثعلبة أن يفتكوا به وبأصحابه حين اشتغالهم بالصلاة، فاطلع اللّه رسوله على سريرتهم، وأنزل صلاة الخوف المار ذكرها في الآية 111 من سورة النّساء، والحادثة التي أنعم اللّه بها على رسوله مثل الحادثة الأخرى يوم حاصر حضرة الرّسول غطفان بنخل إذ جاءه رجل من المشركين وقال يا محمد أرني سيفك، فأعطاه إياه، ثم شهره عليه وقال له من يمنعك مني؟ فقال، اللّه، فسقط السّيف من يده، ونحو حادثة يهود بنى النّضير حينما ذهب إليهم بطلب إعانته على دية الرّجلين الّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري بعد انصرافه من بئر معونة فتلقوه بالترحاب وأجلسوه ليجمعوا له الدّية فتآمروا على أن يطرحوا عليه، حجرة من أعلى الحصن فأنزل اللّه جبريل عليه السّلام وأخبره بنيتهم وما أجمعوا عليه فقام من مكانه وتركهم بعصمة اللّه تعالى إياه في هاتين الحادثتين، وعصمه وأصحابه في الحادثة الأولى المشار إليها في هذه الآية والمشار إليها في الآية 173 من آل عمران المارة المنبئة عن مثل هذه النّعم، لأن سياقها ينطبق على هذه الحوادث وغيرها مما فيه عصمة اللّه لرسوله وأصحابه وحادثة بن النّضير الأخرى حينما طلبوا منه الصّلح وقرروا الغدر به المار ذكرها في الآية 12 من سورة الرّعد المارة، وما ضاهى هذه الحوادث، إذ تصلح هذه الآية أن تكون سببا للنزول في كل منها لموافقتها المعنى، وقد ذكرنا غير مرة بأن سبب النّزول يجوز تعدّده ومقارنته للحادثة وتأخره عنها، وقد يطلق لفظ القوم على الواحد كلفظ النّاس المار ذكره في الآية 173 من آل عمران المذكورة آنفا وإن ضرر الرّئيس ونفعه يعود على المرءوس، وما يراد به فهو مراد بهم.قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ} لما ذكر اللّه تعالى بعض غدر قوم محمد بمحمد ونقضهم عهده اردف بذكر غدر قوم موسى بموسى ونكثهم ميثاقه تسلية له صلى اللّه عليهما وسلم فقال: {وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} رئيسا وعمدة وشريفا وعميدا وزعيما {وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أنصركم وأعينكم وأحفظكم من كلّ سوء يراد بكم {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} الحاضرين معكم موسى وهرون ومن قبلهم {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} ووقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم على أعدائي {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بأن تعطوا قسما من أموالكم للفقراء عن طيب نفس بلا من ولا أذى، فإذا قمتم بهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية المؤذنة بالقسم وعزتي وجلالي {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}.
|